فصل: قال الثعلبي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكثرت العذرة في السفينة، فشكوا إلى نوح، فأوحى الله تعالى إلى نوح: أن امسح ذنب الفيل، فمسحه فخرج خنزير، فأكل العذرة.
وفي خبر آخر فخرج منه خنزيران فأكلا العذرة.
قال الفقيه، أبو الليث رحمه الله: في خبر وهب بن منبه دليل أن الهرة، كانت من قبل.
وفي هذا الخبر أن الهرة لم تكن من قبل، والله أعلم بالصواب منهما.
وروي عن ابن عباس أنه قال: لما فار الماء من التنور، فأرسل الله تعالى من السماء بمطر شديد، فأقبلت الوحوش حتى أصابتها السماء إلى نوح، وسخرت له فحمل في السفينة من كل طير زوجين، ومن كل دابة زوجين، ومن كل بهيمة زوجين، ومن كل سبع زوجين، يعني: الذكر والأنثى.
فقال نوح: رب هذه الحية والعقرب، كيف أصنع بهما؟ فبعث الله تعالى جبريل، فقطع فقار العقرب، وضرب فم الحية.
وكان نوح جعل للسفينة ثلاثة أبواب، بعضها أسفل من بعض، فجعل في الباب الأسفل: السباع والهوام، وجعل في الباب الأوسط: البهائم والوحوش، وجعل في الباب الأعلى: بني آدم من ذكر منهم.
فذلك قوله تعالى: {وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} قال ابن عباس: هم ثمانون إنسانًا، وقال الأعمش في قوله: {وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} كان نوح، وثلاث بنين، ونساؤهم.
وقال مقاتل: كانوا أربعين رجلًا، وأربعين امرأة.
قرأ عاصم في رواية حفص: {مِن كُلّ} بالتنوين، يعني: من كل شيء، ثُمَّ قال: {زَوْجَيْنِ} على وجه التفسير للكل، وقرأ الباقون: {مِن كُلّ زَوْجَيْنِ} بغير تنوين على معنى الإضافة.
قوله تعالى: {وَقَالَ اركبوا فِيهَا} يعني: ادخلوا في السفينة.
ويقال: الجؤوا فيها من الغرق: {بِسْمِ الله مَجْرَاهَا} يعني: إذا ركبتموها فقولوا: {بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا}.
قرأ حمزة والكسائي، وعاصم في رواية حفص: {مَجْرِيها} بنصب الميم، وهكذا قرأ ابن مسعود، والأعمش.
وقرأ الباقون: بضم الميم.
واتفقوا في: {أَيَّانَ مرساها}، أنها بضم الميم، إلا أن حمزة، والكسائي قرآ بالإمالة.
فأما من قرأ بضم الميم، فيكون بمعنى المصدر، ومعناه: يعني إجراؤها وإرساؤها بأمر الله تعالى، وهذا قول الفراء.
ويقال: معناه بسم الله من حيث تجري وتحبس.
ومن قرأ بالنصب فمعناه: بسم الله جريها وحبسها يعني: بأمر الله تعالى.
{إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} بالمؤمنين.
قوله تعالى: {وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ في مَوْجٍ} يعني: أمواجًا: {كالجبال ونادى نُوحٌ ابنه} كنعان، وقرأ بعضهم: ابنها، يعني: ابن امرأته، وقرأ بعضهم: {نُوحٌ ابنه} بضم الألف، وهي بلغة طيئ.
ويقال: إنه لم يكن ابنه، ولكن كان ابن امرأته.
وقراءة العامة: {ونادى نُوحٌ ابنه} قالوا: {وَكَانَ} ابن نوح: {فِى مَعْزِلٍ} يعني: في ناحية من السفينة، ويقال: من الجبل، {مَعْزِلٍ يا بنى اركب مَّعَنَا} أسلم، واركب في السفينة معنا: {وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} يعني: لا تثبت على الكفر، ولا تتخلف مع الكافرين.
قرأ عاصم: {مَعْزِلٍ يا بنى اركب} بنصب الياء قرأ الباقون: {مَعْزِلٍ يا بنى اركب} بالكسر.
وقال أبو عبيدة: القراءة عندنا بالكسر، للإضافة إلى نفسه كما اتفقوا في قوله: {قَالَ يا بنى لاَ تَقْصُصْ رُءْيَاكَ على إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشيطان للإنسان عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [يوسف: 5] وفي لقمان: {يا بنى إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ أَوْ في السماوات أَوْ في الأرض يَأْتِ بِهَا الله إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16] وإنما فرق عاصم فيما يرى الألف الخفيفة الحقيقة التي في قوله اركب.
{قَالَ سَاوِى} يعني: قال ابنه: سأصعد: {إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الماء} يعني: يمنعني من الماء، أم من الغرق، ولا أؤمن، ولا أركب السفينة، {قَالَ} نوح: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} يقول: لا مانع اليوم من عذاب الله، أي الغرق، لا جبل ولا غيره: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ} يعني: إلا من قد آمن، فعصمه الله.
ثم قال: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج} يعني: فرَّقَ بين كنعان، وبين الجبل الموج، وهذا قول الكلبي.
وقال مقاتل: وحال بينهما، يعني بين نوح وابنه الموج، {فَكَانَ مِنَ المغرقين} يعني: فصار من المغرقين.
وروي عن ابن عباس أنه قال: أمطرت السماء أربعين يومًا، وخرج ماء الأرض أربعين يومًا الليل والنهار، فذلك قوله: {فَفَتَحْنَا أبواب السماء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُونًا فَالْتَقَى الماء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 11، 12] وارتفع الماء على كل جبل في الأرض، خمسة عشر ذراعًا.
وروي عن الحسن، أنه قال: ارتفع الماء فوق كل جبل، وكل شيء، ثلاثين ذراعًا.
وسارت بهم السفينة، فطافت بهم الأرض كلها في خمسة أشهر، ما استقرت على شيء، حتى أتت الحرم فلم تدخله، ودارت بالحرم أسبوعًا، ورفع البيت الذي بناه آدم إلى السماء السادسة، وهو البيت المعمور، وجعل الحجر الأسود على أبي قبيس.
ويقال: أودع فيه، ثم ذهبت السفينة في الأرض حتى انتهت بهم إلى الجودي، وهو جبل بأرض الموصل، فاستقرت عليه بعد خمسة أشهر.
قال ابن عباس: ركب نوح السفينة لعشر مضين من رجب، وخرج منها يوم عاشوراء، فذلك ستة أشهر، فلما استقرت على الجودي، كشف نوح الطبق الذي فيه الطير، فبعث الغراب ليأتيه بالخبر فأبصر جيفة، فوقع عليها فأبطأ على نوح، فلم يأته، ثم أرسل الحدأة على أثره، فأبطأت عليه، ثم أرسل بالحمامة فلم تجد موقفًا في الأرض، فجاءت بورق الزيتون، فعرف نوح أن الماء قد نقص، فظهرت الأشجار ثم أرسلها فوقفت على الأرض، فغابت رجلاها في الطين فجاءت إلى نوح، فعرف أن الأرض قد ظهرت.
وذلك قوله: {وَقِيلَ يا أرض ابلعى مَاءكِ} معناه: انشفي ماءك الذي خرج منك: {مَاءكِ ويا سماء أَقْلِعِى} يعني: احبسي وامسكي: {وَغِيضَ الماء} يعني: نقص الماء، وظهرت الجبال والأرض، {وَقُضِىَ الأمر} يعني: فرغ من الأمر، ومعناه: نجا من نجا وهلك من هلك: {واستوت عَلَى الجودى} يعني: استقرت السفينة على الجودي.
وروي في الخبر: أن الله تعالى أوحى إلى الجبال، أني أنزل السفينة على جبل، فتشامخت الجبال، وتواضع الجودي لله تعالى، فأرسيت عليه السفينة.
وقال الحكيم: خرج قوس قزح بعد الطوفان أمانًا لأهل الأرض أن يغرقوا جميعًا: {وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ الظالمين} يعني: سحقًا ونكسًا للقوم الكافرين، وهو التبعيد من رحمة الله تعالى. اهـ.

.قال الثعلبي في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ إِنَّي}
قرأ أهل مكة وأبو عمرو والكسائي: أني بفتح الألف ويعنون بأني، وقرأ الباقون بكسر الألف إني، قال: إني لأن في الإرسال معنى القول.
{لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لاَّ تعبدوا إِلاَّ الله إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} مؤلم، قال مقاتل: بعث نوح وأمره ربّه ببناء، السفينة وهو ابن ستمائة سنة وكان عمره ألفًا وخمسين عامًا ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة، قال الله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] أي فلبث فيهم داعيًا: {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاك} يا نوح: {إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا} آدميًا مثلنا: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} سفلتنا: {بَادِيَ الرأي} قال مجاهد وأبي المعين وحمزة أبو عمرو وبصير على معنى بادي الرأي من غير روية ولا فكرة يعني: آمنوا من غير روية.
{وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ قَالَ} نوح: {ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي وَآتَانِي رَحْمَةً} هدىً ومغفرة: {مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} التبست واشتبهت وقرأ أهل الكوفة: فعُمّيت بضم العين وتشديد الميم، أي اشتبهت ولبّست ومعنى الكلام: عمّيت الأبصار عن الحق، وهذا كما يقال: دخل الخاتم في أصبعي، والخُفّ في رجلي وإنما يدخل الأصبع في الخاتم والرجل في الخُفّ: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} يعني البيّنة والرحمة: {وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} لا تريدونها يعني لا يُقبل ذلك.
{وياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا} أي على الوحي وتبليغ الرسالة كناية عن غير مذكور: {إِنْ أَجْرِيَ} ما ثوابي: {إِلاَّ عَلَى الله وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا} الباء صلة: {إِنَّهُمْ مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ} بالمعاد: {ولكني أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وياقوم مَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ الله وَلاَ أَعْلَمُ الغيب وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري} تحتقر وتستصغر: {أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا} يعني يؤخذ وانما: {الله أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} من النية والعزم والخير والشر: {إني إِذًا لَّمِنَ الظالمين} إنْ فعلتُ ذلك.
{قَالُواْ يا نوح قَدْ جَادَلْتَنَا} ما ريتنا وخاصمتنا: {فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} يعني العذاب: {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاءَ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي} نصيحتي: {إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} يهلككم ويضلكم: {هُوَ رَبُّكُمْ} والأمر والحكم له: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازيكم بأعمالكم وهو ردّ على المعتزلة والمرجئة.
{أَمْ يَقُولُونَ افتراه} قال ابن عباس: يعني نوحًا، مقاتل يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} إثمي ووبال أمري، لا تؤخذون بذنبي: {وَأَنَاْ بريء مِّمَّا تُجْرِمُونَ} لا أواخذ بذنوبكم: {وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ} ولا تحزن وهو منفعل من البؤس: {بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} فإني مهلكهم ومنقذك منهم فحينئذ دعا عليهم: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّارًا} [نوح: 26].
{واصنع الفلك} واعمل السفينة: {بِأَعْيُنِنَا} بمرأى منّا، الضحاك: بمنظر منّا، مقاتل: بعلمنا، ربيع: بمسمعنا: {وَوَحْيِنَا} [على ما أوحينا إليك]، قال ابن عباس: وذلك إنّه لم يعلم كيف يصنع الفلك فأوحى الله إليه أن يصنعها على جؤجؤ الطائر: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا} ولا تسألني العفو عن هؤلاء الذين كفروا: {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} بالطوفان، أمر أن لا يشفع لهم عنده، وقال: عنى امرأته وابنه.
{وَيَصْنَعُ الفلك} قيل: معناه وكان يصنع الفلك، وقيل: معناه وصنع الفلك: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} هزئوا به.
{قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا} الآن: {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} إذا عاينتم عذاب الله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} يهينه: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} دائم، قال ابن عباس: اتخذ نوح عليه السلام السفينة في سنتين، وكان طول السفينة ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين، وطولها في السمك ثلاثين ذراعًا، وكانت من خشب الساج، وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وركب هو في البطن الأعلى [...]، عمّا يحتاج إليه من الزاد.
روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مكث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله، فأوحى الله عزّ وجلّ لما كان آخر زمانه وغرس شجرة فعظمت وذهبت كلّ مذهب ثمّ قطعها ويقطع ما يبس منها، ثمّ جعل يعمل سفينة ويمّرون عليه قومه فيسألونه فيقول: أعمل سفينة فيسخرون منه ويقولون: يعمل سفينة في البر فكيف تجري؟ فيقول: فسوف تعلمون، فلّما فرغ منها وفار التنور وكثر الماء في السكك، خشيت أُمّ صبي عليه وكانت تحبّه حبًّا شديدًا، فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلمّا بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثيه، فلمّا بلغها الماء خرجت حتى صعدت على الجبل فلما بلغ الماء رقبته رفعته بيديها حتى ذهب بها الماء، فلو رحم الله أحدًا منهم لرحم أُمّ الصبي».
وروى علي بن زيد بن صوحان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: قال الحواريون لعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام: لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فيحدّثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفًّا من ذلك التراب بكفّه قال: أتدرون ماهذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا كفن حام بن نوح، قال: فضرب الكثيب بعصاه وقال: قم بإذن الله، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه وقد شاب، قال له عيسى: هكذا هلكت؟ قال: لا بل متُّ وأنا شاب ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثَمّ شبت، قال: حدِّثْنا عن سفينة نوح، قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات، فطبقة فيها الدواب والوحش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير، فلمّا كثرت فضلات الدواب أوحى الله تعالى إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل، فغمز فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث، فلمّا وقع الفار بحوض السفينة وحبالها فقرضها، وذلك أن الفار ولدت في السفينة فأوحى الله تعالى إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وهرّة فأقبلا على الفار.
فقال له عيسى: كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت؟ قال: بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها فدعا عليه بالخوف، فلذلك لا يألف البيوت، ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجلها فعلم أن البلاد قد غرقت قال: فطوّقها بالحمرة التي في عنقها ودعا لها أن تكون في قصر بأمان فمن ثم تألف البيوت.
قال: فقالوا: يا رسول الله ألا ننطلق به إلى أهلنا فيجلس معنا ويحدّثنا؟ قال: كيف يتبعكم من لا رزق له؟ فقال له: عد بإذن الله، قال: فعاد ترابًا.
وروى محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمير أنّه كان يحدّث الأحاديث وكانوا يبطشون به، يعني قوم نوح فيخنقونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال: ربّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون، حتى إذا تمادوا في المعصية وعظمت في الأرض منهم الخطيئة وتطاولوا عليه، وتطاول عليه وعليهم الشأن واشتد عليه منهم البلاء، وانتظر البخل بعد البخل، فلا يأتي قرن إلاّ كان أخبث من الذي قبله حتى إذا كان الآخر منهم ليقول: قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنونًا لا يقبلون منه شيئًا، حتى شكا ذلك من أمرهم إلى الله عزّ وجل فقال: رب إنّي دعوت قومي ليلا ونهارًا، حتى قال: ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارًا إلى آخر القصة، فأوحى الله إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي بعد اليوم إنهم مغرقون.
فأقبل نوح على [عمل] الفلك ولجأ عن قومه إلى جبل يقطع الخشب ويضرب بيديه [الحديد]، ويهيّئ عدة الفلك من القار وغيره مما لا يصلحه إلاّ هو، وجعل قومه يمرون به وهو في ذلك من عمله فيسخرون منه ويقولون: يا نوح هل صرت نجارًا بعد النبوة؟ وأعقم الله أرحام النساء فلبثوا سنين فلا يولد لهم ولد.
قال: ويزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج وأن يصنعه أزور وأن يطليه بالقار من أسفله وخارجه، وأن يجعل طولها ثمانين ذراعًا وعرضها خمسين ذراعًا، ومائة في عرضه وبطوله في السماء ثلاثين ذراعًا، والذراع إلى المنكب، وجعلها ثلاثة طوابق سفلى ووسطى وعليا، فجعل فيه كوى، ففعل نوح كما أمره الله تعالى.
{حتى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} عذابنا: {وَفَارَ التنور} يعني انبجس الماء من وجه الأرض، والعرب تسمي وجه الأرض تنور الأرض، وذلك أنه إذا قيل: إذا رأيت الماء يسيح على وجه الأرض فاركب أنت ومن اتبعك، ومنها قول ابن عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تفسير و: {وَفَارَ التنور}: أي طلع الفجر ونور الصبح، ومن ذلك عبارته نوّر الفجر تنويرًا، قتادة: موضع في الأرض وأعلى مكان فيها. قال الحسن: أراد بالتنور الذي يخبز فيه وكان تنورًا من حجارة وكان لحواء حتى صار إلى نوح، فقيل له: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك، فنبع الماء من التنور فعلمت به امرأته فأخبرته، وهذا قول مهران. ورواه عطية عن ابن عباس، قال مجاهد: وكان ذلك في ناحية الكوفة، وروى السدي عن الشعبي أنه كان يحلف بالله ما يظهر التنور إلاّ من ناحية الكوفة، وقال: اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة، وكان التنور على يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان فوران الماء منه علمًا لنوح ودليلا على هلاك قومه.
وقال مقاتل: كان ذلك تنور آدم وإنّما كان بالشام بموضع يقال له: عين وردة، وقال ابن عباس: فار التنور بالهند، والفور: الغليان.